وحدة



كان يجلس وحيدا، على صخرة، هي أيضا وحيدة في هذا الركن من الشاطئ، حينما جاءت فتاة وجلست على مقربة منه، تفصلهما عدة أمتار... في بادئ الأمر، استغرب قدوم فتاة في بداية العشرينات من عمرها، إلى الشاطئ بمفردها. قال لنفسه محدثا، ربما تسكن بأحد البيوت القريبة من الشاطئ. شعر بالبهجة لقدومها، قدومها طرد الوحشة عن المكان. وجود الفتاة في أي مكان يمنحه حيوية وبهاء.
عاد مجددا ينظر باتجاه البحر... غرست الفتاة قدميها في الرمل، بعد أن خلعت حذاءها، وأخذت تفركهما بالرمل، كأنها تريد من الرمل والملح أن ينفذا إلى جسمها ويملئان مسامها. أرخت الدبابيس التي تشد الوشاح الملفوف على رأسها، مما زاد شعورها براحة أكبر. كان الوقت عشية، قبل الغروب بساعة، كانت الشمس لطيفة. فشمس طرابلس لا تمنح لُطفها ولا حنانها، إلا قبيل الغروب، كأنها تعتذر لكل من لفحهم حرها طوال اليوم.
ألقت بنظرها في الأفق، تتأمل التقاء أزرق البحر بأزرق السماء، تتبع بنظرها الأمواج وهي تتهادى مع النسيم. تراقب طيور النورس في حركتها الدورية لالتقاط الأسماك، أحيانا تنجح، وأحيانا تخرج كما دخلت. أخدها انعكاس أشعة الشمس على صفحة الماء، إلى أولى ذكرياتها عن البحر.
كان عمرها بين الثالثة والرابعة. كانت ترتدي ثوبا صيفيا مزينا بالألوان مكشوف الكتفين ويعلوا ركبتيها. كانت سعادتها لا توصف وهي تشاهد هذا المد من اللون الأزرق، ومئات الأشخاص يملئون المكان. الأطفال أمامها يتراشقون بالماء، تريد الانضمام إليهم، ولكن خوفها من هذا المد الأزرق جعلها لا تقدم. شد نظرها الأطفال الذين يركلون الموج بأقدامهم، هي أيضا تريد ركل الموج. ازدادت حماستها وأخذت تنط في مكانها، أمسكت بحافة ثوبها وأخذت ترفرف بيديها وهي تنط. تذكرت والدتها التي تصرخ عليها كلما رفعت ثوبها وهي تلعب (أنزلي ثوبك)، في حركة لا إرادية التفتت باتجاه أمها، كأنها بانتظار صرختها. زادت بهجتها عندما وجدت أمها مشغولة بترتيب حاجياتهم. كان والدها يقترب منهم جالبا آخر حاجياتهم من السيارة، ركضت باتجاهه ممدودة اليد تريده أن يأخذها للبحر. بيد ممدودة وهي جالسة أغلقت يدها كأنها تريد استعادة تلك اللمسة وتلك اللحظة، تذكرت والدها الذي غادرهم وغادر الحياة، فر الدمع من عينيها، أحنت رأسها ووضعت يديها على وجهها.
هب نسيم قوي طَيَّرَ وشاحها الملفوف حول شعرها... التفت "مروان" للشيء الذي سقط بقربه. قام من مكانه ليعطي للفتاة وشاحها. أخذت تمسح دموعها بسرعة قبل وصوله... ناولها الوشاح...
- تفضلي
- شكرا
لاحظ آثار الدمع على عينيها، تردد في أن يسألها، ولكنه استحى مِنْ ألَّا يسألها: كنت تبكين، هل هناك أي شيء، هل يمكنني مساعدتك.
وهي تضع وشاحها على رأسها - شكرا. فقط بعض الحزن.... أومأ مروان برأسه بمعنى حسنا، والتفت ليعود لمكانه، لصخرته الوحيدة... أوقفته كلمات الفتاة "أنا وحيدة"... لم تعرف لماذا خرجت الكلمات، ولكنها خرجت... التفت لها مروان: "كلنا وحيدون. كلنا"... صمتت للحظات وعادت للحديث مجددا "لقد اشتقت لوالدي. كان صديقي الوحيد. أنه متوفي الله يرحمه"...
***
لاحظ مروان نجمة خضراء مرسومة بقلم حبر أخضر على راحة يدها اليسرى: "ما هذه النجمة في راحة يدكِ؟"
وهي تنظر إليها: "عندما تتملكني الوحدة، أصعد إلى سطح المنزل، أهرب من الناس والوجود بحثا عن نفسي. أراقب السماء، أسرح بروحي، أبحث عمن أحبهم في الفضاء الرحب. من غادروا الدنيا، ومن لم التقي بهم بعد. أنسج الأمنيات وأُعَلِّقُها بإحدى النجمات، فهكذا تكون أقرب إلى الله، وإلى النجوم. ولكي لا أنسى أمنياتي، أويغلبني اليأس، فإنني أرسمها على يدي، لكي أتذكرها، كلما نظرت إلى يدي"...
- ولماذا ترسمينها بلون أخضر
- لا أعلم. ربما لأنه لون الأمل والحياة
يخرج مروان يده اليسرى من جيبه ويريها راحة يده. نفس النجمة، نفس اللون، ونفس المكان: "ألم أقل لكِ بأننا كلنا وحيدون"... تبتسم: "رفيقي، ما اسمك؟"...
- مروان
- وأنا هناء. وتمد يدها لتصافحه
يهبُ النسيم مجددا، ومجددا يُطيِّر وشاحها. ينحني مروان ليلتقطه... تتكلم: "دعه في مكانه"... تمد يدها لمروان. يمسك مروان بيدها، تنهض لتقف وهي ممسكة بيده، يتجهان للبحر ويداهما متشابكتان، فما زالت تخشى الدخول بمفردها للبحر.

تعليقات

المشاركات الشائعة