ملاك



آه كم أحب فصل الخريف. لم يكن فصلِي المفضل، حتى التقيت "ملاك". هو زوجي واسمه يحيى، ولكني اناديه ملاك، لم يكن يحب أن أناديه بذلك. لأنه اسم أنثوي في ثقافتنا ويطلق على الفتيات. ولكنني في قلبي دائما أناديه ملاك. وسيبقى ملاكي...
كان ملاكي يقدس فصل الخريف، يرى أَنَّ فلسفة الحياة تتجسد في هذا الفصل. سقوط الأوراق لتنمو مكانها أوراق جديدة، دورة الحياة التي لا تنتهي.. فصل كل الفصول. أو بمعنى أدق، الفصل الذي ترى خلاله كل الفصول. المطر الخفيف تارة، والقوي تارة أخرى. السماء الصافية والشمس الساطعة أحيانا، والملبَّدة بالغيوم محتشمة الشمس أحيانا أخرى. والرياح...
كم كان ملاكي يحب الرياح. كانت لديه تلك الفلسفة، أَنَّ الأرواح تطير مع الرياح، وأَنَّ من يتعلم ركوب الرياح، فقد أدرك ماهية الكون وحركته. صُوفِّيًا بطريقته الخاصة، مع أنه يرفض الاعتراف بذلك. . كان دائم الترديد لأبيات الحلاج...
يا نسيم الروح قولي للرشـا... لم يزدني الـِورْد إلا عطشـا
لي حبيبٌ حبّه وسط الحشـا   إن يشأ يمشي على خدّي مشا
روحه روحي وروحي روحه... إن يشأ شئتُ وإن شئتُ يشأ
أنظري إلى الحلاج يا عزيزتي، أدرك ماهية الرياح، لهذا كان يُحمِّلُها أشواقه. لا يدرك ذلك إلا الصوفيون يا عزيزتي...
* * *
في سني، عندما يكون المرء في العقد السابع من عمره، لا يكون أمامه أشياء كثيرة يفعلها. لذلك أقضي معظم الوقت في حديقة المنزل، عندما يكون الطقس جيدا. هو أيضا كان يحب الجلوس في الحديقة، و لكنه على عكسي لا يحب المكوث هنا طويلا، يحبها لأنها توفر له العزلة عن البشر. كان دائم  التكرار لاقتباس سارتر "الآخرون هم الجحيم"...
عندما سألتُهُ هل لهذه الدرجة لا تحب البشر. أجاب مباشرة بابتسامته المعهودة والبريق في عينيه "أصل كلمة بشر. شر"... صمت قليلا ثم أردف "الجنة من دون ناس، لا تداس. (لا تطاق) لا قيمة للجنة و متعها بدون أناس يملئونها، ولا للحياة بدون من نحبهم فيها. ولكن هذا لا ينفي يا عزيزتي أَنَّ من يصنع الحروب بشر، من يمنع الأدوية عمن لا يملكون المال بشر، من يسرق الأحلام والفرح بشر، ومن يمصون الدماء والعرق بشر أيضا. لذلك الآخرون هم الجحيم"...
كان معقدا وجميلا، يحب السكينة التي تمنحها الحديقة ويخشى هدوئها المستمر. كم أشتاق لعقده وجنونه. لقد قالي في بداياتنا، عندما كان يعبِّرُ لي عن حبه، أنه قرأ لواسيني الأعرج "عندما تحب لا تحب بكلك وإلا ستموت مغبونا. أترك دائما القليل لك، لكي تستطيع أن تقف علي رجليك". وأنه على الفور ترسخت الجملة في عقله، فقد كان حينها تحت تأثير الحمى، حمى الحب. وأردف يقول، استوعبتها ولكني لم أدرك معناها إدراكا كاملا حينها، استوعبت أن من يحب كل هذا الحب، قد وصل إلى درجة التوحد مع الآخر، حتى أصبح لا يقوى على الحياة بدونه. أحببت الجملة وتضايقت منها قليلا.. أحببت التحذير الذي فيها، من قلب محب وصادق، اكتوى بنار الحب حتى شلت أوصاله. وما ضايقني هو نفس التحذير، فمن منا، نحن من نَدِينُ بِدِينِ الحب لا يتمنى أن يتوحد مع من يحب. أن يصل إلى تلك الحالة الوجدانية التي، يصبح فيها المرء مكتفيا في حياته بمن يحب، يعيش بهم و لأجلهم. ولكن اليوم أدركت ما تعنيه هذه الجملة تماما. فأنت حينما تحب بكلك، فقد سلكت أوعر الدروب، الدرب الذي يدمي القلب وينهك الروح...
صمت ملاكي قليلا، كأنه يستجمع قواه لاعتراف. لم يدم صمته طويلا، وأشهد أني خلال لحظات صمته كنت أسمع دقات قلبه، على الرغم من أن دق قلبي كان أضعاف. وقال: وأنا اليوم أحبك بكلي، لم يعد لي حياة، تستحق وصف حياة بدونكِ. لقد علمني حبك أَنَّ المرأة هي الوطن الذي يعيش بداخله الرجل، إن وجدها أصبح زاهدا في الحياة... لم يدرك المهبول حينها أنني أنا أيضا كنت أتغلغل فيه شيئا فشيئا، وأنني أيضا لا حياة لي بدونه...
* * *
في حديقة المنزل تجلس الجدة وبجانبها حفيدتها "ملاك"  تحتسيان الشاي وتتبادلان أطراف الحديث...
الجدة
- أنا بخير يا حبيبتي، ولكنني متعبة قليلا

- هل هنالك خطب في صحتك يا جدتي
- لا. ولكن منذ رحيل حبيبي لا أقوى على الحياة. أشتاق له كثيرا
- جميعنا نشتاق له يا جدتي
- أتعلمين يا حبيبتي لماذا كان جدك يبتسم عندما كنت أناديك ملاكي
- لماذا يا جدتي
- لأنني كنت أناديه هو. لهذا كنت أتعمد ذكر اسمك كثيرا.. وتبتسم الجدة
- وأنا الذي كنت أظن أنك تفعلين ذلك من فرط حبك لي. وأنت كنت تمارسين رومانسية خفية.
- أجل
- أترين تلك الورقة الوحيدة، كل الأوراق سقطت ومازالت هي تنتظر انتهاء رحلتها. إنني كتلك الورقة، كلتانا منهكتان
- إن الرياح قوية بعض الشيء هذا اليوم، ربما يجب أن ندخل للبيت يا جدتي، سيصبح الطقس باردا
- دعينا قليلا يا حبيبتي

وتضحك كلتاهما... تصمت الجدة قليلا ومن ثم تعاود الحديث مع حفيدتها...
- أترين تلك الشجرة أمامنا
وتقول الجدة محدثة نفسها ولكن بصوت مسموع، يبدو أَنَّ اللحظة حانت...
- ما الذي حان يا جدتي ما الذي تقصدينه
- لا شيء يا حبيبتي. لا شيء 
  
تشتد الرياح أقوى ويزداد صريرها. كانت الرياح قوية كفاية لتسقط الورقة الوحيدة... لاحظت الحفيدة اقتلاع الرياح للورقة، فقد كانت تنظر إليها وقت اقتلاعها، تُحَدِّثُ جدتها...
- جدتي، انظري لقد سقطت الورقة
ولكن لا صوت ولا حركة تصدر من الجدة... تلتفت الحفيدة باتجاه جدتها، تجدها مغمضة العينين ومبتسمة...
- جدتي هل نمت في هذا الطقس، يجب أن ندخل إلى الداخل...
ولكن الجدة لا تجيب... لقد كانت على موعد مع الرياح، فقد كان ملاكها على الجانب الآخر بانتظارها...

تعليقات

المشاركات الشائعة